فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (5- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [5- 8].
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} أي: نتفضل: {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} أي: لملك عدوّهم. كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} إلى قوله: {يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: بالتصرف فيها تصرف الملوك: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} أي: من ألئك المستضعفين: {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} أي: من هلاكهم وذهاب ملكهم، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} أي: إثر ولادته في تلك الشدّة: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} أي: من أولئك الدباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي: في البحر، وهو النيل: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} أي: في هلاكهم على يديه.
قال أبو السعود: واللام لام العاقبة. أبرز مدخولها في معرض العلة، لالتقاطهم. تشبيهاً له في الترتب عليه، بالغرض الحامل عليه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي: مجرمين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم، ومَنْ هو سبب هلاكهم، على أيديهم.

.تفسير الآيات (9- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [9- 11].
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} أي: لفرعون، حين أخرجته من التابوت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: بما سيكون: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} أي: خالياً من العقل. لما دهمها من فرط الجزع، وأطار عقلها من الدهش، لما بلغها وقوعه في يد فرعون: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي: بأمره وقصته، وأنه ولدها: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: لولا أن ألهمناها الصبر. شبه بربط الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن. ومعنى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: المصدقين بوعد الله. وهو قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [7].
قال الزمخشري: ويجوز، وأصبح فؤادها فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبنّاه. إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت. لولا أنّا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره لتنالي خبره: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} بضم النون وسكونها. أي: عن بعد: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: أنها تتعرف حاله.

.تفسير الآيات (12- 17):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [12- 17].
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل قصّها أثره. والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك التاء لاختصاصه بالنساء. أو جمع مرضع بفتح الميم مصدر ميميّ، جمع لتعدد موادّه. أو اسم موضع الرضاع، وهو الثدي: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي: في رضاعه وتربيته: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي: برؤيته: {وَلا تَحْزَنَ} أي: بفراقه: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: كمال قوته {وَاسْتَوَى} أي: اعتدل مزاجه: {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي: في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة، بقوله سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} أي: مصر آتياً من قصر فرعون: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشائين: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} أي: يتنازعان: {هَذَا} أي: الواحد: {مِنْ شِيعَتِهِ} أي: ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل: {وَهَذَا} أي: الآخر: {مِنْ عَدُوِّهِ} أي: من خالفه في دينه وهم القبط: {فَاسْتَغَاثَهُ} أي: سأله الإغاثة: {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} لكونه مظلوماً: {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} لكونه ظالماً. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين: {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أي: ضربه بجُمع كفَّه: {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: فقتله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه، من قتله. وسماه ظلماً واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي: بقتله: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف. أي: أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين. وأن يكن استعطافاً كأنه قال: رب! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة. فلن أكون، إن عصمتني، ظهيراً للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشريّ.
قال الناصر: لقد تبرأ عليه السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى أنه ثقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة، أو برى لهم قلماً، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.

.تفسير الآيات (18- 23):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [18- 23].
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي: الاستقادة أو الأجناد: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ} أي استعانة فقتل من أجله منازعه القبطيّ: {يَسْتَصْرِخُهُ} أي: يستغيثه من قبطيّ آخر: {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي: بمخاصمتك الناس مع عجزك، وجرّك إليهم ما لا تحمد عقباه: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} أي: لموسى وللإسرائيليّ، وهو القبطيّ: {قَالَ} أي: ذلك العدوّ وهو القبطيّ، لا الإسرائيليّ كما وهم: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} أي: بين الناس بالقول والفعل.
قال الزمخشري: الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} أي: يسرع لفرط حبه لموسى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون بسببك: {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أي: من حدّ مملكتهم: {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} أي: لحوق الطالبين: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ} أي: جعل وجهه: {تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: فلا يلحقني فيه الطالبون: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} أي: جماعة كثيفة: {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أي: مواشيهم: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تمنعان مواشيهما عن الماء، لوجود من هو أقوى منهما عنده، فلا تتمكنان من السقي: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: ما شأنكما في الذود: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي: عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، عجزاً عن مساجلتهم، وحذراً من مخالطة الرجال: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي: فيعجز عن الخروج والسقي. أي: ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو، وقد أضعفه الكبر، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.

.تفسير الآيات (24- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [24- 25].
{فَسَقَى لَهُمَا} أي: فسقى غنمهما، لأجلهما من غير أجر: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي: الذي كان هناك، من شدة الحر: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي: محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أي: أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: بالخروج عند حدّ ولايتهم، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.

.تفسير الآيات (26- 28):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [26- 28].
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي: اجعله أجيرك ليرعى غنمك، فإنه حقيق بذلك: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: خير من أردت جعله أجيراً، القويّ على العمل المؤتمن فيه.
قال الزمخشريّ: وقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوَّته وأمانته. انتهى.
قال الناصر: وهو أيضاً أجمل في مدح النساء للرجال، من المدح الخاص. وأبقى للحشمة. وخصوصاً إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قوياً وأميناً: يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه. انتهى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ} أي: لقوتك وأمانتك، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب: {أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي: على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي، هي مهرها عليك، ثماني سنين: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي: فهو من عندك بطريق التفضل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي: بإلزام أتم الأجلين وإيجابه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي: في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} أي: ذاك الذي عاهدتني عليه، لا نخرج عنه جميعاً: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} أي: أتممت: {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: بطلب الزيادة على ثمان، أو الخروج بالأهل قبل عشر: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: شاهد وحفيظ.

.تفسير الآيات (29- 31):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [29- 31].
{فَلَمَّا قَضَى} أي: أتم: {مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي: من الطريق، من ضوئها، أو ممن عندها: {أَوْ جَذْوَةٍ} مثلثة الجيم، وقد قرئ بها كلها، أي: عود فيه شيء: {مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: تستدفئون: {فَلَمَّا أَتَاهَا} أي: قرب منها: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ} أي: جانب: {الْوَادِ الْأَيْمَنِ} أي: المبارك. يقال: يمن فهو ميمون وأيمن. وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد، لأن ألفاظ التنزيل وآية يفسر بعضها بعضاً. وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس، وبقعته بالمباركة، والمعنى واحد. وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} أي: التي بورك مكانها بالتجلي الإلهيّ: {مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أي: تتحرك: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي: حية صغيرة، في سرعة الحركة: {وَلَّى مُدْبِراً} أي: أعرض بوجهه عنها. جاعلاً ظهره إليها: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي: لم يرجع: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي: من المخاوف.

.تفسير الآيات (32- 35):

القول في تأويل قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [32- 35].
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} أي: ادخلها فيه: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي: عيب: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي: يدك: {مِنَ الرَّهْبِ} أي: الخوف. قرئ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون. قال ابن أسلم وابن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير: والظاهر أن المراد أعم من هذا. وهو أنه أمر عليه السلام، إذا خاف من شيء، أن يضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما استعمل أحد ذلك، على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخفّ إن شاء الله تعالى. وبه الثقة {فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد: {بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} أي: فيكون أحسن بياناً. ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} أي: معيناً: {يُصَدِّقُنِي} أي: لنشاط قلبي: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي: يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات.
قال الزمخشري: فإن قلت: تصديق أخيه، ما الفائدة فيه؟
قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة. فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك. لا لقوله صدقت. فإن سحبان وباقلاً يستويان فيه. أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه. فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه، إسناداً مجازياً. انتهى {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي: سنقويك به ونعينك.
قال الشهاب: والشد التقوية، والعضد من اليد معروف. فهو إما كناية تلويحية عن تقويته، لأن اليد تشد بشدة العضد، والجملة تشتد بشدة اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم. أو استعارة تمثيلية. شبّه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي: غلبة ومهابة في قلوبهم أو حجة: {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي: بإيذاء، فضلاً عن القتل: {بِآياتِنَا} متعلق بمحذوف أي: اذهبا بآياتنا. أو بنجعل أي: نسلطكما بها أو بمعنى: لا يصلون أي: تمتنعون منهم بها. أو قسم، جوابه لا يصلون مقدر. أو صلة للغالبون في قوله: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} وتقدمه، إما للفاصلة أو للحصر. أي: الغالبون عليهم، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم.